2
[ المزلق الأول : مشكلة القراءة ]
- بيان المزلق :-
المشكلة ليست في مبدأ التسليم ولا هي مع النص وإنما في فصيل خاص للتسليم لقراءته الخاصة في النص وفرق بين التسليم للنص والتسليم لقراءة النص فالتسليم للنص لا إشكال فيه , أما التسليم لواحد من قراءته فهو محل الإعتراض .
لمعالجة هذه الإشكالية ينبغي الإلمام بجملة من العناصر واللتي ترسم تصورا صحيحا لعلاقة النص المقدس بالفهم البشري وصلة ذلك بمبدأ التسليم وتتلخص في عناصر :-
أولا : بين قدسية الوحي والفهم الغير المقدس :-
الحقيقة أنه يمكن عد هذه الشبهة هي الشبهة المركزية اللتي يدور عليها هذا الخطاب وهي تتخذ أشكالا لكنها تختلف في المضمون :-
( النص مقدس لكن فهمه غير مقدس - يجب الحفاظ على مسافة بين النص وقارئ النص - عندنا إسلامات متعددة فأيها نطبق .. وغير ذلك )
محصلة الشبهة النهائية أن الشريعة تكتسب قدسية زائفة بأن الشريعة لا تفسر نفسها بنفسها وإنما يفسرها الإنسان وبجرد قراءة الناس للوحي يتحول من طبيعة تنزيلية إلى طبيعة تأويلية , من كونه منطوقا إلهيا إلى كونه مفهوما بشريا .
* مكمن الإشكال الرئيسي هنا هو في تصوير نصوص الشريعة وكأنها مزيج هلامي متشابه لا يتمايز منه شيئ عن شيء من البيان والوضوح بل الكل قابل لقراءات متعددة متكاثرة .
والحق أن الوحي فيه المحكم الواضح البين بنفسه الذي في غنى عن التأويل والإجتهاد البشري , قال تعالى :-
( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات .. الآية )
والمحكمات من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل إلا وجه واحد .
والمتشابه منه : ما احتمل من التأويل أوجها .
وقد بين الطبري أن بعض المحكم تحصَل على وجه الإحكام لبيان الله تعالى او رسوله ,فقال :
( أو يكون محكما , وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة بالدلاله على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه , او بيان رسوله لأمته , ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة).
إذا يجب تحديد موقع النص من خارطة المحكم والمتشابه والحيدة عن هذه الحقيقة الشرعية يجعل من الوحي مجرد قالب لفظي لا قيمة له ولا يوصل إلى معنى محدد , بل يمكن أن يوصل للنتيجة وضدها , ويُفسر بالشيء ونقيضة وهي دعوى :-
- تخالف المحسوس من شأن هذا الوحي وبيانه ووضوحه
- مناقض لوصف القرآن بالوضوح وأنه بيان ومبين وتبيان ونور وهدى وفرقان وكتاب أحكمت آياته
- ويلزم منها جعل الحديث القرآني المتكرر عن حاكمية الشريعة والرد إلى نصوصها في حال الإختلاف وبيان الفرق بينها وبين حكم الجاهلية عبثا لا فائدة منه , وإحالة على معدوم وأمرا بما لا يطاق .
- ويلزم هدم الأدلة الشرعية جميعها وعدم التعويل عليها إطلاقا
- وسيفتح علينا باب من السفسطة وأي باب
- وإذا أطلقت القول بنسبية الحق في الفهم فلا يحق لك تخطئة المخالف لك مهما كان الفهم خاطئ أو غاليا أو مجافيا - حتى الخوارج يُقرَوا بما فهموه من نصوص الوحي .
ثانيا : الوحي بين الإحكام والمتشابه :-
( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر المتشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء وابتغاء تأويله .. الآية )
هنا يثبت الله أن في القرآن محكم ومتشابه لحكمة أرادها ومن رحمة الله أن جعل محكمات الكتاب غالبة على الكتاب حيث وصف المحكم بـ( أم الكتاب )
ورد في تفسير الطبري :(( وإنما سماهن أم الكتاب لأنهن معظم الكتاب وموضع الفزع عند أهله عند الحاجة إليه وكذلك العرب تسمي الجامع معظم الشيء : أما له ))
ومتى ما تعلق المرء بالنص المتشابه دون المحكم كان ذلك على أمارات الزيغ والتعلق بالنص الأقل حضورا ووضوحا على حساب النصوص المحكمة الواضحة
ثالثا : من يملك حق التفسير ؟
انطلاقا من قسمة ابن عباس في طبيعة التفسير القرآني وهي :-
1 - وجه تعرفه العرب من كلامها .
2 - تفسير لا يعذر أحد بجهالته .
3 - تفسير يعلمه العلماء .
4 - تفسير لا يعلمه إلا الله .
فثمة مجال تفسيري يجب أن لا يتحدث فيه إلا ذوو الإختصاص من أهل العلم والله يقول :-
( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )
رابعا : ضبط منهجية النص :-
ملامح مهمة في تقرير هذه القضية المهمة على نحو مختصر :-
1 - أدوات فهم الوحي مبثوثة في الوحي ذاته .
2 - منه الفهم الصحيح يتكئ في الجملة على قضيتين رئيسيتين :-
أ- علم بأصول الخطاب العربي .
ب - معرفة بأقوال السلف الصالح .
3- إعتبار اللغة العربية ومعهود الأميين أساسا لفهم الكتاب والسنة .
4 - يشكل الصحابة حضور مركزي في مفهوم السلف الصالح .
5 - دلالة الوحي على اعتبار فهم الصحابة جاء بطريقتين :-
أ- مباشر : بالأمر بالإتباع .
ب- غير مباشر : بيان الفضل والعلم لهم .
خامسا : من مشكلة التأويل إلى إعادة القراءة :-
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مركز الصراع في الوحي سينتقل نسبيا من مركز التنزيل إلى مركز التأويل فقال :-
(( .. إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله .. الحديث ))
وأكثر المصطلحات حضورا في معركة الفهم هما :-
1 / التأويل . 2 / إعادة القراءة .
والمقصد الآن هو تبيين أوجه المعارضة اللتي تقع باسم هاتين القضيتين لمسألة تسليم الله ورسوله .
( التأويل )
وهو يدور على معنيين صحيحين :-
1 - التفسير
2 - الحقيقة اللتي يؤول إليها الشيء .
وعليهما يدور تفسير كلمة التأويل في خطاب الوحي .
أما التأويل في المصطلح الكلامي فهو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال مرجوح لقرينة صارفة .
وهو مصطلح حادث وليس معنى معهودا في العربية وبالتالي فلا يصح تنزيل وحي خطاب الوحي عليه .
فالمؤاخذة ليس في الإصطلاح على معنى خاص للتأويل , لكن المشاحة في تنزيل كلام الله ورسوله على المعنى المولد .
- أصل مشكلة التأويل في الباعث
أصل المشكلة هوفي سبق جملة من الأصول والعقائد واحتلالها موقع الصدارة في النفس على حساب الوحي
فإذا وقع في الوحي ما يعكر صفو تلك الأصول فإنه يتم الكر عليها بالتحريف تحت مسمى التأويل .
فالواجب شرعا هو الإنطلاق من الوحي ابتداء طلبا للإهتداء .
- بعض أمارات التأويل الفاسد :-
الذي يجمع التأويل الفاسد حقيقة هو : انعدام الدليل الموجب للإنتقال من معنى إلى معنى , وله أمارات وعلامات :-
1 - تأويل النص بما لا يحتمله بوضعه اللغوي , كتأويل الإستواء بالإستيلاء .
2 - التأويل بما لا يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنيته أو جمع وإن احتمله مفردا كتأويل :-
( لما خلقت بيدي )
3 - التأويل بما لا يحتمله سياقه وتركيبه واحتمله في غير ذلك السياق , كتأويل :-
( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر صحوا .. الحديث )
[ من أراد الإستزادة فليراجع المقرر ]
وإذا تأملت في أكثر أدوات الباطل شيوعا في الفرق المنحرفة فستجد التأويل الفاسد يقف على رأس القائمة .
( إعادة قراءة النص )
هي صورة من صور الغلو في تفعيل أداة التأويل في فهم الوحي , فأصحابها في الجملة ينطلقون في قراءتهم للوحي بضغط توهمات أن معضلة التخلف السائد في العالم الإسلامي ناشئ عن الإستمساك بظواهر الوحي بما يستبقي ألفاظه ويحيد معانيه .
لنا أن نتسائل : لماذا لا يقيمون هؤلاء منظومتهم الفكرية مباشرة ويحيدون الوحي بألفاظه ومعانيه من المشهد بالكلية ؟
الجواب : يكمن في طبيعة الحال بأنهم لا يمكنهم أن يمرروا تصوراتهم افكرية مع تحييدهم للوحي فيضطرون للتعاطي مع الوحي وتمرير تصوراتهم الفكرية من خلاله .
- النص المفتوح أساس القراءة الجديدة :-
يمكن القول بأن الأصل اللتي تقوم عليها كافة مدارس تجديد القراءة هو جعل الوحي نصا مفتوحا غير خاضع لمعنى محدد .
وتتيح المجال لعبثية القراءة بعيدا عن واجبات الإستهداء بالوحي وتطلب مراد الله ورسوله منه .
والأمر لا يعدوا أن يكون في حقيقته تفريغا لدلالة الوحي من كل معنى وإحالته إلى نص هلامي سيال يلغي دوره في التوجيه والإرشاد والهداية .
وأصدق القارئ بأني غير متحمس كثيرا لتقديم رؤية نقدية مفصلة لاتجاهات تجديد التراث وإعادة القراءة لاعتبارين أساسيين :-
1- أن دائرة الجدل تدور حول مسألة بدهية : بين رؤية تجعل للنص معنى شرعيا معتبرا يجب السعي في تطلبه , وبين رؤية تحاول إلغاء قصدية الوحي بإلغاء المعنى
2 - أن الدراسات لهذا الإتجاه متوافرة بحمد الله .
[ المزلق الثاني : مشكلة الخلاف ]
-بيان المزلق :-
أن في اختلاف أهل العلم ما يدل على أن مبدأ التسليم ليس بهذا الإحكام إذ لو كان كذلك لما وقع اختلاف , ولكان من موجب التسليم اتفاق الكل على قول واحد .
وأيضا فوجود الإختلاف في مسألة يرفع عنها واجب التسليم ويجعلها مسألة ظنية يتأرجح فيها المسلم بين حق وحق آخر , فبأي حق أخذ فهو إلى خير إن شاء الله .
ووجه الإشكال ناشئ عن خلل في تصور أنواع الخلاف ودرجاته ورتبه , والموقف الشرعي من كل نوع ومعرفة ماهية التسليم المطلوب حيال كل قسم , ومما يعيب على رفع الإشكال استحضار المسائل التالية :-
أولا : الاختلاف سنة ربانية :-
وقوع الإختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقدراتهم .
ولذا فإن التذمر من وجود الخلاف والحيرةعند كل خلاف مذهب غير حميد , بل الواجب أن تتفهم طبيعة هذا الخلاف في إطاره الشرعي الصحيح.
ثانيا : منشأ المشكلة الغفلة عن رتب المسائل :-
إذ المسائل الخلافية ليست على مرتبة واحدة ولذا من المهم استحضار هذا التفاوت الواقع في طبيعة المسائل المختلف فيها وأنها على رتب :-
1 / جملة واسعة من الأصول والثوابت مما يدخل في دائرة المعرفة الإنسانية العامة مما يعلمه أهل الإسلام جميعا وضرورة وهي المعبر عنها بـ( لبمعلوم من الدين بالضرورة )
فلا يصح الإختلاف فيه , فلو قدر مخالفة البعض فالواجب رد هذا الإختلاف رأسا , ولا يصح أن يلتفت إليه أو يتأثر به .
2 / ثمة مسائل إجتماعية مدركة عند أهل العلم , لا يصح فيها خلاف , ويدل على ذلك :-
(( لا تجتمع أمتي على ضلالة ))
( .. ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
3 / أما مسائل الخلاف فهي على ضربين :-
أ- خلاف سائغ
ب- خلاف غير سائغ , وذلك لشذوذ في القول أو بعذ عن الدليل أو ضعف في الإستدلال .
فهذا اللون من الخلاف لا يصح الأخذ به , وله أمارات :-
كالتفرد برأي يخالف المشهوة المستقر بين جماهير أهل العلم أو المخالفة البينة لنص المسألة وهكذا وهو المسمى عند العلماء بـ( زلة العالم ) واللتي يحرم متابعته عليها .
أما الخلاف السائغ وهو : ماكان واقعا في مسائل الإجتهاد فالواجب فيه التعاذر مع تطلب الحق فيه .
وهذا هو الداخل في قاعدة أهل العلم ( لا إنكار في مسائل الإجتهاد ) شريطة أن تكون :-
أ - بواعث تبني هذا الرأي طلب الحق وإرادة الوصول إلى مراد الله لا تلمس هوى النفس وما يناسب الإنسان .
ب - سلوك الطريق الشرعية المعتبرة للترجيح بحسب طبيعة الناظر وعلمه .
ولا يقال للمخالف : أين تسليمك للنص ؟
بل تسليمه مع اجتهاده قائم .